شفرة الحب المنقوصة
كاتب وباحث اقتصادي ومتخصص في الشئون الأفريقية
تجاذب "ماجد" أطراف الحديث مع "محسن" في قهوة صغيرة وعتيقة تقع في إمتداد شارع القصر العيني بوسط القاهرة ولقد أصبح "محسن" صديق جديد لـ"ماجد" تعرف عليه في إحدى الندوات الشعرية قرب مُلتقى ثقافي كبير يقع على مُقربة من ميدان التحرير منذ بضع ساعات وكان "محسن" طبيبا نفسيا وباحثا في ظواهر ما وراء الطبيعة ، تبادلا الحديث عن القوة الكامنة في ذلك الإحساس الغامر المُسمى بالحب خاصة بعد تلك السهرة الشاعرية الحالمة التي طوفا فيها في قصص الحب وإستمعا معا لأبيات شعرية تناولت الحب من مختلف المدارس الشعرية تقريبا ، طلب "ماجد" من صديقه الجديد "محسن" أن يقول له تعريف جديد للحب ليس في صورة الشعر وليس في صورة أوصاف علمية دقيقة فابتسم "محسن" ثم قال له :
الحب كسحر مُباح لكن لكونه سحر فانه خارج نطاق فهم البعض والبعض أيضا يُحرمه والبعض يعاني منه ولا يستفيق من مرارته وحلاوته معا تماما كالسحر .
ثم صمتا لبُرهة ثم طلب "محسن" من ماجد أن يقول له تعريفا غير معتادا في الحديث عن وصف الحب فقال له "ماجد" :
الحب كشفرة سرية تنقصها بعض الأحرف والعلامات لتكتمل لكن من يُحب حقا لا يستطيع أن يتوقف عن إستخدام تلك الشفرة المنقوصة ولا يستطيع أن يتوقف عن محاولة فهمها وعبثا يحاول ولكنه دوما لا يتوقف عن الحب .
فيقاطعه "محسن" قائلاً معك حق وكأن هناك قوى ما وراء الطبيعة تجمعهما معا دون أن يدرك أحد سر تلك القوى فيستطرد "ماجد" قائلاً الحب يجعل القلب نابض رغم الشيخوخة ويجعل الرجل كالابن لمحبوبته ويجعل المرأة كالابنة لمحبوبها لكنه ليس رابط الدم إنه رابط الروح وهو رابط أقوى وأعمق لكن الناس تهرب من كل رابط لا تستطيع أن تراه ولا تستطيع أن تتحمل تبعاته وقوته لذلك من يهرب من الحب سوف يرى المُحب كالساحر أو كالملحد سوف يراه من زاوية من يتحدى الطبيعة سوف يراه كأنه من أصحاب القدرات الخارقة كالمستبصر والمتنور بفضل اتصاله بقوى خارقة وكائنات وعوالم خفية ممن يسمونهم المتنورين وهنا يقاطعه "محسن" قائلا هذا تشبيه ظالم لأن المستبصرين أو المتنورين بقوى السحر والشر ليسوا متنورين أو مستبصرين بحق وإنما هم سحرة وكافرين فالمستبصر الحقيقي والمتنور الحقيقي هو من يفيض عليه الخالق بفيوض الحكمة والرحمة لإيمانه الصادق وشفافية روحه الطاهرة ولا يستدعي علما أو معرفة من خلال الاتصال بقوى الشر وهنا يقاطعه "ماجد" قائلا له أحسنت في المُقاربة لأن الأرواح الطاهرة في حبها للخالق والخير لا تخاف أن تحب وترتبط بروحها الطاهرة تلك مع روح نقية وطاهرة أخرى أما من يخاف من الحب الصادق فهو لم يلتقي بعد بروحه بالروح التي يسكن إليها دون خوف فإن وجدها ولم يسكن إليها عاش معذبا هائما ينتظر اللقاء في عالم الآخرة فليس للمتآلفين بأرواحهم إلا القرب من بعضهم البعض فإن تغلبت معايير المادة والدنيا الفانية على قوانين القرب بالجسد فإنها لن تتغلب على التآلف في عالم الروح سواء كان ذلك في الدنيا أو في الآخرة وهذا يُفسر عمق الحب لدى البعض وعدم قدرتهم على الحب أكثر من مرة ورؤيتهم لأمور في من يحبوا لا يستطيع أحد أن يراها غيرهم لأنهم يروا بعين البصيرة وليس بعين البصر ومهما بلغت النفس البشرية من رُقي في تلك الحياة الدنيا الفانية فسيبقى الحب فيها كشفرة منقوصة تنتظر أن تكتمل في عالم آخر أرقى من تلك الدنيا الفانية وهنا يُثني "محسن" على كلام "ماجد" وهو يهز رأسه في إعجاب قائلا له لقد تأخر الوقت كثيرا دعني أذكرك في ختام هذا الحديث الشيق وقبل عودة كلا منا لمنزله دعني أذكرك بهذا البيت الشعري الجميل :
تَتَبّعَ الحبُّ روحي في مَسالِكِهِ
حتى جرَى الحبُّ مجرَى الرّوحِ في الجسدِ
فقال له "ماجد" أحسنت الاختيار يا صديقي إن هذا من شعر "أبو الفضل بن الأحنف" وهو من أفضل ما قيل في الحب في العصر العباسي ثم قال "ماجد" لو علم المحبوب مقدار محبته في قلب وروح من يحبه حبا صادقا طاهرا لما تلاعب به يوما ولما أرسل له إلا رسائل الخير والبشرى والطمأنينة والوصال ثم قال "ماجد" هذه الأبيات الشعرية :
قد خِفتُ أن لا أراكم آخرَ الأبدِ
وأن أموتَ بهذا الشّوقِ والكَمَدِ
الموتُ يا فوْزُ خيرٌ لي وأروحُ لي
من أنْ أعيشَ حليفَ الهمّ والسّهدِ
لمّا أتاني كِتابٌ مِنكِ يا سَكَني
جعلتهُ شَبَهَ التّعويذِ في عضدُدي ...
ثم تبسما لبعضهما البعض وانصرفا في نشوة المنتصر للحب والخير والحق وكأنهم بحديثهم هذا قد حرروا عبيدا ورفعوا عنهم نير الرق أو ردوا حقا لمظلوم .
تعليقات
إرسال تعليق